الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} قوله تعالى{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} حض على الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه؛ قوله تعالى{والمستضعفين} عطف على اسم الله عز وجل، أي وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم؛ فالسبيلان مختلفان. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون قوله تعالى{من هذه القرية الظالم أهلها} القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير. وهذا كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، والكريم أبوه، والحسنة جاريته. وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير، فلو قلت: مررت بالرجل الكريم عمر ولم تجز المسألة؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء. ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع، لأنها تقوم مقام الفعل، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول: مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم. }واجعل لنا من لدنك} أي من عندك. }وليا} أي من يستنقذنا }واجعل لنا من لدنك نصيرا} أي ينصرنا عليهم. {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} قوله تعالى{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله} أي في طاعته. }والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} قال أبو عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد: وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق: الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل{فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال: أراد به يوم بدر حين قال للمشركين {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} قلت: وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله{وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب }أي هلا، ولا يليها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم. قوله تعالى{قل متاع الدنيا قليل} ابتداء وخبر. وكذا }والآخرة خير لمن اتقى} أي المعاصي؛ وقد مضى القول في هذا في }البقرة} ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له. {أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} قوله تعالى{أينما تكونوا يدرككم الموت} شرط ومجازاة، و}ما} زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا{لولا أخرتنا إلى أجل قريب }أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا، لقولهم لما أصيب أهل أحد، قالوا وقرأ طلحة بن سليمان }يدرككم }برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله: أراد فالله يشكرها. واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح. إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد: البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى }مشيدة }مطولة، قال الزجاج والقتبي. عكرمة: المزينة بالشيد وهو الجص. قال قتادة: محصنة. والمشيد والمشيد سواء، ومنه هذه الآية ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى{أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدم الرد عليهم في }آل عمران }ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين. اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس، وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول: التوكل ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع. وقد قيل للأحنف: ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه. الرابعة: وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج لظهورها، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع؛ ومنه قوله قوله تعالى{وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله }أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله. }وإن تصبهم سيئة }أي جدب ومحل قالوا: هذا من عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية. وأنها نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى }من عندك }أي بسوء تدبيرك. وقيل{من عندك }بشؤمك، كما ذكرنا، أي بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى{قل كل من عند الله} أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره.} فمال هؤلاء القوم} يعني المنافقين }لا يكادون يفقهون حديثا} أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله. {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} قوله تعالى{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قال الحسن والسدي وغيرهما؛ كما قال تعالى أراد }أهم }فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الأخفش }ما }بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال النحاس: والصواب قول الأخفش؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود }ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك }فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع؛ لأن مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أحد؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه؛ على ما تقدم في }آل عمران }بيانه. فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون: إن الحسنة ههنا الطاعة، والسيئة المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى{وما أصابك من سيئة فمن نفسك }إلى الإنسان دون الله تعالى؛ فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى{قل كل من عند الله }قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا }ما أصابك من حسنة }أي من طاعة }فمن الله }فليس هذا اعتقادهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم. قوله تعالى{وأرسلناك للناس رسولا} مصدر مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة }وكفى بالله شهيدا} نصب على البيان والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق. {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} قوله تعالى{من يطع الرسول فقد أطاع الله} أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. قوله تعالى{ومن تولى} أي أعرض }فما أرسلناك عليهم حفيظا} أي حافظا ورقيبا لأعمالهم، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي: محاسبا؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله. {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} قوله تعالى{ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون} أي أمرنا طاعة، ويجوز }طاعة} بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين؛ أي يقولون إذا كانوا عندك: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، وقولهم هذا ليس بنافع؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. }فإذا برزوا} أي خرجوا }من عندك بيت طائفة منهم} فذكر الطائفة لأنها في معنى رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير. قبيح. ومعنى }بيت }زور وموه. وقيل: غير وبدل وحرف؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به.. والتبييت التبديل؛ ومنه قول الشاعر: لأنكح أيمهم منذرا وهل ينكح العبد حر لحر آخر: وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا؛ قال الله تعالى ومن هذا بيت الصيام. والبيوت: الماء يبيت ليلا. والبيوت: الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به؛ قال الهذلي: والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا؛ كما يقال: ظل بالنهار. وبيت الشيء قدر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال{بيت طائفة منهم }؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. }والله يكتب ما يبيتون} أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا؛ فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها؛ لأنهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها. قوله تعالى{فأعرض عنهم} أي لا تخبر بأسمائهم؛ عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. }وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى قوله تعالى{أفلا يتدبرون القرآن} ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشيء فكرت في عاقبته. قوله تعالى{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} أي تفاوتا وتناقضا؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات. وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون. {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} قوله تعالى{وإذا جاءهم أمر من الأمن} في }إذا }معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها }ما }وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير: يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول }البقرة}. والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم }أو الخوف }وهو ضد هذا }أذاعوا به} أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل: كان هذا من ضعفة المسلمين؛ عن الحسن؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف. قوله تعالى{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم} أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. }لعلمه الذين يستنبطونه منهم} أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم. قوله تعالى{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} رفع بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون: رفع بلولا. }لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} في هذه الآية ثلاثة أقوال؛ قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري. وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم؛ عن الحسن وغيره، واختاره الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه؛ لأنه استعلام خبر. واختار الأول الفراء قال: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة تكون في مضى دون بعض. قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة. قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك: المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول يكون قوله }إلا قليلا }مستثنى من قوله }لاتبعتم الشيطان}. قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان. {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا} قوله تعالى{فقاتل في سبيل الله} هذه الفاء متعلقة بقوله قوله تعالى{لا تكلف إلا نفسك} }تكلف }مرفوع لأنه مستقبل، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول. وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. }إلا نفسك }خبر ما لم يسم فاعله؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به. قوله تعالى{وحرض المؤمنين} أي حضهم على الجهاد والقتال. يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به. وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد. }عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا} إطماع، والإطماع من الله عز وجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{والله أشد بأسا} أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. }وأشد تنكيلا} أي عقوبة؛ عن الحسن وغيره. قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي رماه بما ينكله. قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان. قال: إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} قوله تعالى{من يشفع }أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد؛ ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له. واختلف المتأولون في هذه الآية؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم؛ فمن يشفع لينفع فله نصبب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الأول. وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم. قوله تعالى{وكان الله على كل شيء مقيتا} }مقيتا }معناه مقتدرا؛ ومنه قول الزبير بن عبدالمطلب: أي قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته؛ ومنه فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا} قوله تعالى{وإذا حييتم بتحية} التحية تفعلة من حييت؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل: الملك. قال عبدالله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله }التحيات لله }ما معناه ؟ فقال: التحيات مثل البركات؛ فقلت: ما معنى البركات ؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا. وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شيء تعبدالله به عباده. فقدمت الكوفة فلقيت عبدالله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول }التحيات لله }فأجاباني بكذا وكذا؛ فقال عبدالله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء ؟ ! التحية الملك؛ وأنشد: وأنشد ابن خويز منداد: يريد على ملكه. وقال آخر: وقال القتبي: إنما قال }التحيات لله }على الجمع؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله؛ أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى. ووجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام؛ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم. واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت. وهذا ضعيف؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها. قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية؛ لقوله تعالى{أو ردوها }ولا يمكن رد الإسلام بعينه. وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة }الروم }عند قوله أراد: ومسلم عليهم. وعلى هذا جماعة المفسرين. وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة؛ لقوله تعالى{فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة؛ قالوا: والسلام خلاف الرد؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة. ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه؛ حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته؛ لأنه فعل ما أمر به. والناس على خلافه. احتج الأولون بما قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد؛ وفيه قلق. قوله تعالى{فحيوا بأحسن منها أو ردوها} رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله؛ لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله؛ زدت في ردك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق؛ قال الله تعالى قلت: فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا: الأولى: الإخبار عن صفة خلق آدم. الثانية: أنا ندخل الجنة عليها بفضله. الثالثة: تسليم القليل على الكثير. الرابعة: تقديم اسم الله تعالى. الخامسة: الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم. السادسة: الزيادة في الرد. السابعة: إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون. والله أعلم. فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها؛ لثبوته وقال آخر وهو الشماخ: نهاه عن ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى؛ لأنه قلت: وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة. والله أعلم. من السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير؛ هكذا جاء وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عن. وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه؛ هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم ؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن؛ قاله القتبي. والسنة في السلام والجواب الجهر؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب. وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له؛ ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب. وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم. قال ابن عباس وغيره: المراد بالآية{وإذا حييتم بتحية }فإذا كانت من مؤمن }فحيوا بأحسن منها }وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: (وعليكم ). وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك؛ كما جاء في الحديث. قلت: فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم (عليك ) بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال؛ لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سامة ديننا؛ فاختلف المتأولون لذلك على أقوال: أولاها أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي زائدة. وقيل: للاستئناف. والأولى أولى. ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الأكثر. واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين؛ وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب؛ فإن رددت فقل: عليك. واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام. أي ارتفع عنك. واختار بعض علمائنا السلام (بكسر السين ) يعني به الحجارة. وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة }مريم }القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد. ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه. قوله تعالى{إن الله كان على كل شيء حسيبا} معناه حفيظا. وقيل: كافيا؛ من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله. وقال قتادة: محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل. وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة هنا؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به. {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا} قوله تعالى{الله لا إله إلا هو} ابتداء وخبر. واللام في قول }ليجمعنكم }لام القسم؛ نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه. وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم. ومعناه في الموت وتحت الأرض }إلى يوم القيامة لا ريب فيه} وقال بعضهم{إلى} صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة. وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز؛ قال الله تعالى {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} قوله تعالى{فما لكم في المنافقين فئتين} }فئتين }أي فرقتين مختلفتين. روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فقال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا؛ فنزلت }فما لكم في المنافقين فئتين}. قلت: وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى أي نكسوا. وارتكس فلان في أمر كان نجا منه. والركوسية قوم بين النصارى والصابئين. والراكس الثور وسط البدر والثيران حواليه حين الدياس. }أتريدون أن تهدوا من أضل الله} أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين. }فلن تجد له سبيلا} أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة. وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم. {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} قوله تعالى{ودوا لو تكفرون} أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء؛ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال{فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا }؛ كما قال تعالى ثم استثنى فقال تعالى{إلا الذين يصلون} استثناء أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف؛ المعنى: فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا. هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية. قال أبو عبيد: يصلون ينتسبون؛ ومنه قول الأعشى: يريد إذا انتسبت. قال المهدوي: وأنكره العلماء؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم. وقال النحاس: وهذا غلط عظيم؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له }براءة }وإنما نزلت }براءة} بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب. وقال معناه الطبري. قلت: حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة. واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق؛ فقيل: بنو مدلج. عن الحسن: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد. وقال عكرمة: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وقيل: خزاعة. وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة. في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في }الأنفال وبراءة }إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{أو جاؤوكم حصرت صدورهم} أي ضاقت. وقال لبيد: أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم. والحصر الكتوم للسر؛ قال جرير: ومعنى }حصرت }قد حصرت فأضمرت قد؛ قال الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في }جاؤوكم }كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله. وقيل: هو خبر بعد خبر قاله الزجاج. أي جاؤوكم ثم أخبر فقال{حصرت صدورهم }فعلى هذا يكون }حصرت }بدلا من }جاؤوكم }كما قيل{حصرت }في موضع خفض على النعت لقوم. وفي حرف أبي }إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم }ليس فيه }أو جاؤوكم}. وقيل: تقديره أو جاؤوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال. وقرأ الحسن }أو جاؤوكم حصرة صدورهم }نصب على الحال، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر. وحكى }أو جاؤوكم حصرت صدورهم}، ويجوز الرفع. وقال محمد بن يزيد{حصرت صدورهم }هو دعاء عليهم؛ كما تقول: لعن الله الكافر؛ وقال المبرد. وضعفه بعض المفسرين وقال: هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم؛ وذلك فاسد؛ لأنهم كفار وقومهم كفار. وأجيب بأن معناه صحيح، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم، وفي حق قومهم تحقيرا لهم. وقيل{أو }بمعنى الواو؛ كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاؤوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين. ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا نقاتل؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام. والأول أظهر. والله أعلم. }أو يقاتلوا }في موضع نصب؛ أي عن أن يقاتلوكم. قوله تعالى{ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا} قوله تعالى{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم} معناها معنى الآية الأولى. قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم. مجاهد: هي في قوم من أهل مكة. وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين. وقال الحسن: هذا في قوم من المنافقين. وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر. قوله تعالى{كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش }ردوا }بكسر الراء؛ لأن الأصل }رددوا }فأدغم وقلبت الكسرة على الراء. }إلى الفتنة }أي الكفر }أركسوا فيها}. وقيل: أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم. ومعنى }أركسوا فيها }أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا. وقيل: أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه. {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما} قوله تعالى{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} هذه آية من أمهات الأحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ؛ فقوله{وما كان }ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله إلا الأواري لأيا ما أبينها والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد فلما لم تكن }الأواري }من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه. ومثله قول الآخر: وقال آخر: وقال آخر: أنشده سيبويه؛ ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير: كأنه قال: لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد. ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية. وقيل: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ؛ فلا يقتص منه؛ ولكن فيه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد؛ كأنه قال: وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع. وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة. وقيل: المعنى ولا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز أن تكون }إلا} بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يحظر. ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته. وقرأ الأعمش }خطاء }ممدودا في المواضع الثلاثة. ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد؛ مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما. أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ. أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غير: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ. قال ابن المنذر: قال الله تبارك وتعالى{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ }إلى قوله تعالى{ودية مسلمة إلى أهله }فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به. ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء؛ تمسكا بقوله تعالى قوله تعالى{فتحرير رقبة مؤمنة} أي فعليه تحرير رقبة؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي. واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان، لا تجزئ في ذلك الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين مسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه. وقال مالك: من صلى وصام أحب إلي. ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور. قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا. ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه؛ لقوله تعالى{فتحرير رقبة}. ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها. واختلفوا أيضا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل، وذنه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء. وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة. وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي بيانه، والله أعلم. قوله تعالى{ودية مسلمة} الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. }مسلمة} مدفوعة مؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة. واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه. وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل، ووداها صلى الله عليه وسلم في عبدالله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه. وأجمع أهل العلم عل أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل؛ فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام ومصر والمغرب؛ هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، في القديم. وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة. وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق وفارس وخراسان؛ هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقال المزني: قال الشافعي الدية الإبل؛ فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر، ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق. وقال أبو حنيفة (أصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم. رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال أبو عمر: في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة؛ وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس. وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل. وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين. قال ابن المنذر: وقالت طائفة: دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا قول الشافعي وبه قال طاوس. قال ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه ونقول. واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون. قال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: دية الخطأ أخماس. كذا قال أصحاب الرأي والثوري، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف؛ قال أصحاب الرأي وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي هذا القول عن ابن مسعود. وقال مالك والشافعي: خمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون. وحكي هذا القول عن عمر بن عبدالعزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد. قال الخطابي: ولأصحاب الرأي فيه أثر، إلا أن راويه عبدالله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به. لما ذكرنا من العلة في راويه، ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول؛ لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين. قلت: قد ووجه آخر: وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه؛ وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا. وقال يحيى بن معين: حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه. وقال عبدالله بن إدريس: سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة. وقال عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون. وقال جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكني حب المال والشرف. وذكر أوجها أخر؛ منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه. إلى غير ذلك مما يطول ذكره؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي. قلت: وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة. قال الخطابي: وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع؛ وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه؛ إلا أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء؛ ولكن عليه عمل أهل المدينة. وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب. قلت: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي. قال أبو عمر: وأسنان الإبل في الدبات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا، وإنما أخذت اتباعا وتسليما، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر؛ فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه؛ رضي الله عنهم أجمعين. قلت: وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. يريد قول عبدالله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي، وابن عبدالبر قال: لأنه الأقل مما قيل؛ وبحديث. مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول. قلت: وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال. وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة، والعاقلة العصبة. وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة. ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم، فلا يعقلون عنهم شيئا. وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز. وقال الكوفيون: يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان؛ فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعلي؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض؛ منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا. ومنها أنه كان يعجلها تأليفا. فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام؛ قاله ابن العربي. وقال أبو عمر: أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها. وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال. وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة؛ ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان. واتفق الفقهاء عل رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. قلت: ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه؛ وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت؛ فقال كافة العلماء: فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة. وقيل: بغير قسامة. واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي، فيه الدية كاملة؛ فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة: الحركة تدل على حياته. وقال مالك: لا، إلا أن يقارنها طول إقامة. والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء. فإن ألقته ميتا ففيه غرة: عبد أو وليدة. فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه. وهذا كله إجماع لا خلاف فيه. وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها: ففيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها؛ المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير. وقال سائر الفقهاء: لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها. قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال: قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها. ولا تكون الغرة إلا بيضاء. ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية. واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا؛ فقال مالك: فيه الغرة والكفارة. وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين؛ فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى؛ لأنها دية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم وحدها؛ لأنها جناية جنى عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية. ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم في الديات، فدل على أن ذلك كالعضو. وكان ابن هرمز يقول: ديته لأبويه خاصة؛ لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها، من كان منهما حيا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما، ولا يرث الإخوة شيئا. قوله تعالى{إلا أن يصدقوا} أصله }أن يتصدقوا }فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء؛ يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم. فهو استثناء ليس من الأول. وقرأ أبو عبدالرحمن ونبيح }إلا أن تصدقوا }بتخفيف الصاد والتاء. وكذلك قرأ أبو عمرو، إلا أنه شدد الصاد. ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء. وفي حرف أبي وابن مسعود }إلا أن يتصدقوا}. وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل. قوله تعالى{فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار. والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي في قومه وهم كفرة }عدو لكم }فلا دية فيه؛ وإنما كفارته تحرير. الرقبة. وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وسقطت الدية لوجهين: أحدهما: أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها. والثاني: أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية؛ لقوله تعالى قلت: ومن هذا الباب قوله تعالى{وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة؛ قال ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب. وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه. وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية. وقرأها الحسن{وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن}. قال الحسن: إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه. قال أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ }ثم قال تعالى{وإن كان من قوم} يريد ذلك المؤمن. والله أعلم. قال ابن العربي: والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد. قلت: وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز. وقوله }فدية مسلمة }على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها. وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ قال أبو عمر: إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل. وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا مما كلاهما تكسرا
وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الأعمى على البصير فمات البصير؛ فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب؛ فقال مالك وأصحابه: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النصف من ذلك. روي هذا القول عن عمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل. وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال، عن عبدالرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم. وعبدالرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا. وقال ابن عباس والشعبي والنخعي: المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي؛ جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب. وحجتهم قوله تعالى{فدية }وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم. وعضدوا هذا بما قوله تعالى{فمن لم يجد} أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها. }فصيام شهرين} أي فعليه صيام شهرين. }متتابعين }حتى لو أفطر يوما استأنف؛ هذا قول الجمهور. وقال مكي عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد. قال ابن عطية: وهذا القول وهم؛ لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل. والطبري حكى هذا القول عن مسروق. والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء؛ قاله أبو عمر. واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين؛ فقال مالك: وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض، وليس له أن يسافر فيفطر. وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس. وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني: يستأنف في المرض؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي؛ وأحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: أنه يبني كما قال مالك. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب، كصوم رمضان. قال أبو عمر: حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد. وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر، وإنما يسقط المأثم؛ قياسا على الصلاة؛ لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذر استأنف ولم يبن. قوله تعالى{توبة من الله} نصب على المصدر، ومعناه رجوعا. وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ. وقيل: أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{وكان الله} أي في أزله وأبده. }عليما} بجميع المعلومات }حكيما }فيما حكم وأبرم.
|